الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قال ابن كيسان { خَلَقَ لَكُمْ } أي من أجلكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات، وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله { جَمِيعاً } أقوى دلالة على هذا. وقد استدلَّ بهذه الآية على تحريم أكل الطين، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقال الرازي في تفسيره إن لقائل أن يقول إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض، فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض، وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه. انتهى. وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال فإن قلت هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض، وما فيها وجه صحة؟ قلت إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء، ويراد الجهات العلوية جاز ذلك، فإن الغبراء، وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى. وأما التراب، فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضاً ضارّ، فليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كنفعة الأكل، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، و { جميعاً } منصوب على الحال. والاستواء في اللغة الاعتدال، والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع، والعلوّ على الشيء، قال تعالىفَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ } المؤمنون 28 وقاللِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } الزخرف 13 وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية. وقد قيل إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها، وترك التعرّض لتفسيرها، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله { فَسَوَّاهُنَّ } مبهم يفسره ما بعده كقولهم زيد رجلاً، وقيل إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس، والمعنى أنه عدل خلقهنّ، فلا اعوجاج فيه. وقد استدل بقوله { ثُمَّ ٱسْتَوَى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في " حمۤ السجدة ". وقال في النازعاتأأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء بَنَـٰهَا } النازعات 28 فوصف خلقها، ثم قالوَٱلأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } النازعات 30 فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالىٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } الأنعام 1 وقد قيل إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال، وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع.

السابقالتالي
2 3