الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

قوله { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } وهو موسى، ونبينا سلام الله عليهما. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم " إنه نبيّ مكلم " وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل إنهم أولوا العزم، وقيل إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه، أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء، وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا، وأطالوا في ذلك، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات، ومزايا الكمال، وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب، قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً، فهو ذريعة إليه بلا شك، ولا شبهة لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ الفلاني، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه، وقد أغني الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل، والفواضل، فإياك أن تتقرّب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها، فتعصيه، وتسيء، وأنت تظن أنك مطيع محسن. قوله { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات، وإبراء المرضى، وغير ذلك. قوله { وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } هو جبريل، وقد تقدّم الكلام على هذا. قوله { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } أي من بعد الرسل، وقيل من بعد موسى، وعيسى، ومحمد لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول، والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ } استثناء من الجملة الشرطية، أي ولكن الاقتتال ناشيء عن اختلافهم اختلافاً عظيماً حتى صاروا مللاً مختلفة { مِنْهُمْ مّنْ آمن وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ } عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف { مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } لا رادّ لحكمه، ولا مبدّل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

PreviousNext
1 3