الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه. والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، من البشر، والسرور. قال القرطبي أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال مَن بشرني مِن عبيدي، فهو حرّ، فبشره واحد من عبيده، فأكثر، فإن أوّلهم يكون حرّاً دون الثاني، واختلفوا إذا قال مَنْ أخبرني مِن عبيدي بكذا، فهو حرّ، فقال أصحاب الشافعي يعمّ لأن كل واحد منهم مخبر، وقال علماؤنا لا لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة، وذلك مختص بالأول. انتهى. والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول، فالخلاف لفظي. والمأمور بالتبشير قيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم " بشر المشائين " وهذه الجمل، وإن كانت مصدرة بالإنشاء، فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة، وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً، وأنشاء. وقيل إن قوله { وَبَشّرِ } معطوف على قولهفَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } البقرة 24، وليس هذا بجيد. و { ٱلصَّـٰلِحَاتِ } الأعمال المستقيمة. والمراد هنا الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم، وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان، والعمل الصالح. والجنات البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجنّ من فيها أي تستره بشجرها، وهو اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة. والأنهار جمع نهر، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالىوَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } يوسف 82 أي أهلها وكما قال الشاعر
ونبئت أن النّارَ بَعْدَكَ أوقِدَتْ واستب بَعدَكَ يا كُليبُ المْجلِسُ   
والضمير في قوله { مِن تَحْتِهَا } عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار، أي من تحت أشجارها. وقوله { كُلَّمَا رُزِقُواْ } وصف آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة كأن سائلاً قال كيف تمارها. و { مِن ثَمَرَةٍ } في معنى من أي ثمرة أي نوع من أنواع الثمرات؟ والمراد بقوله { هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أنه شبيهه، ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون، يشبه اللون، وإن كان الحجم، والطعم، والرائحة، والماوية مختلفة. والضمير في " به " عائد إلى الرزق، وقيل المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً، فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول.

السابقالتالي
2 3