الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } * { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدّم في الآية الأولى أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي الطلقة الأولى، والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه { مَرَّتَانِ } ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك لها، واستدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } أي فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } أي بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها. وقيل المراد { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أي برجعة بعد الطلقة الثانية { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدّتها. والأول أظهر. وقوله { ٱلطَّلَـٰقَ } مبتدأ بتقدير مضاف أي عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان. وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثاً، أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأوّل الجمهور، وذهب إلى الثاني مَنْ عداهم، وهو الحق. وقد قررته في مؤلفاتي تقريراً بالغاً، وأفردته برسالة مستقلة. قوله { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } الخطاب للأزواج، أي لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئاً على وجه المضارة لهنّ، وتنكير { شيئاً } للتحقير أي شيئاً نزراً فضلاً عن الكثير، وخص ما دفعوه إليهنّ بعدم حلّ الأخذ منه مع كونه لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا شيئاً من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك، هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له كان ما عداه ممنوعاً منه بالأولى. وقيل الخطاب في قوله { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } للأئمة، والحكام ليطابق قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن الخطاب فيه للأئمة، والحكام، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك. والأول أولى لقوله { مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جداً لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم. وقيل إن الثاني أولى لئلا يتشوّش النظم. قوله { إِلاَّ أَن يَخَافَا } أي لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلا أن يخافا { يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } أي عدم إقامة حدود الله التي حدّها للزوجينّ، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة، فإن خافا ذلك { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } أي لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج، فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف، وهو الذي صرّح به القرآن.

السابقالتالي
2 3 4 5 6