الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

العرضة النصبة، قاله الجوهري. يقال جعلت فلاناً عرضة لكذا أي نصبة. وقيل العرضة من الشدة، والقوّة، ومنه قولهم للمرأة عرضة للنكاح إذا صلحت له، وقويت عليه، ولفلان عرضة أي قوّة، ومنه قول كعب بن زهير
مِنْ كُلَّ نَضَّاحِة الدِّفرى إذا عَرِقَتْ عُرْضَتُها طَامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ   
ومثله قول أوس بن حجر
وأدْمَاءُ مِثل العجل يوماً عَرَضتُها لِرَحْلي وفيها هِزَّة وَتَقَاذُفُ   
ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر
هم الأنصار عرضتها اللقاء   
أي همتها، ويقال فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه، فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة النصبة كالقبضة، والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء، أي تجعله حاجزاً له، ومانعاً منه، أي لا تجعلوا الله حاجزاً، ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم، أو إحسان إلى الغير، أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم، أي حاجزاً لما حلفوا عليه، ومانعاً منه، وسمى المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله { أَن تَبَرُّواْ } عطف بيان { لأيمانكم } أي لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله { لاِيْمَـٰنِكُمْ } بقوله { لا تجعلوا } أي لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً، وحاجزاً، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أي لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم، وبين البرّ، وما بعده، وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة الشدة، والقوّة يكون معنى الآية لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدّة في الامتناع من الخير، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو تفسير العرضة بالهمة، وأما على المعنى الرابع، وهو من قولهم فلان لا يزال عرضة للناس، أي يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنهوَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ } المائدة 89 وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقالوَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } القلم 10 وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم
قَلِيلُ الألايَا حَافِظُ ليمينه وإن سبقت منه الألية بَرّت   
وعلى هذا، فيكون قوله { أَن تَبَرُّواْ } علة للنهي، أي لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا لأن من يكثر الحلف بالله يجتريء على الحنث، ويفجر في يمينه. وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها، فمن ذلك قول الزجاج معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتلّ بالله، فقال عليَّ يمين، وهو لم يحلف.

السابقالتالي
2 3 4