الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين، والكافرين، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. و " يا " حرف نداء، والمنادى " أيّ " وهو اسم مفرد مبني على الضم، و " ها " حرف تنبيه مقحم بين المنادى، وصفته. قال سيبويه كأنك كررت «يا» مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا ها هو ذا. وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس، والعبادة، وإنما خص نعمة الخلق، وامتنّ بها عليهم لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً، فالكفار مقرُّون بأن الله هو الخالقوَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } الزخرف 87 فامتن عليهم بما يعترفون به، ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق، وجهان أحدهما التقدير، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته قبل القطع. قال زهير
ولأنت تفرى ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفرى   
الثاني الإنشاء، والإختراع، والإبداع. و " لعل " أصلها الترجي، والطمع، والتوقع، والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم افعلوا ذلك على الرجاء منكم، والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل إن العرب استعملت " لعل " مجردة من الشك بمعنى لام " كي ". والمعنى هنا لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر
وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ   
فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ مَُتَألقِ   
أي كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت " لعل " للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال متعرّضين للتقوى. و { جعل } هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والأربع اثنين لما هدَّني الكبر   
و { فِرَاشاً } أي وطاء يستقرون عليها. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم، ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قالوَجَعَلْنَا ٱلسَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } الأنبياء 32. وأصل البناء وضع لبنة على أخرى، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها، وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان، فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات، وأنواعاً من النبات، ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ندّ، وهو المثل والنظير. وقوله { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية، والخطاب للكفار، والمنافقين.

السابقالتالي
2 3 4