الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } * { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } * { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

قيل الخطاب في قوله { ثُمَّ أَفِيضُواْ } للحمس من قريش، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات. بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك، وعلى هذا تكون، ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب، وقيل الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس إبراهيم، أي ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة. ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون، " ثم " على بابها أي للترتيب، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري، وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة. وقيل إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة. والمراد بالمناسك أعمال الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " أي فإذا فرغتم من أعمال الحجّ، فاذكروا الله. وقيل المراد بالمناسك الذبائح، وإنما قال سبحانه { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة، فيذكرون مفاخر آبائهم، ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج إن قوله { أَوْ أَشَدَّ } في موضع خفض عطفاً على ذكركم، والمعنى، أو كأشدّ ذكراً، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي اذكروه أشدّ ذكراً. وقال في الكشاف إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كَذِكْرِكُمْ } كما تقول كذكر قريش آباءهم، أو قوم أشدّ منهم ذكراً. قوله { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين أحدهما يطلب حظ الدنيا، ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعاً، ومفعول الفعل، أعني قوله { أَتَـٰنَا } محذوف، أي ما نريد، أو ما نطلب، والواو في قوله { وما له } واو الحال، والجملة بعدها حالية. والخَلاق النصيب، أي وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها، ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته، ومعظم مقصوده. وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية، فقيل هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية، وما لا بدّ منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا وقيل المراد بحسنة الدنيا الزوجة الحسناء، وحسنة الآخرة الحور العين، وقيل حسنة الدنيا العلم والعبادة، وقيل غير ذلك. قال القرطبي والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا، والآخرة، قال وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع.

السابقالتالي
2 3 4 5