الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

قوله { أُحِلَّ لَكُمُ } فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية، وسيأتي. والرفث كناية عن الجماع. قال الزجاج الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر
ويُرَيْنَ من أنْس الحَدِيثِ زَوَانياً وبهنَّ عَنْ رَفَث الرجالِ نِفَارُ   
وقيل الرفث أصله قول الفحش، رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدّى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء. وجعل النساء لباساً للرجال والرجال لباساً لهنّ لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب، ولابسه. قال أبو عبيدة، وغيره يقال للمرأة لباس، وفراش، وإزار. وقيل إنما جل كل واحد منهما لباساً للآخر، لأنه يستره عند الجماع، عن أعين الناس. وقوله { تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال خان، واختان بمعنى، وهما من الخيانة. قال القتيبي أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء، فلا يؤدي الأمانة فيه. انتهى. وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم، وقوله { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يحتمل معنيين أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة، والإباحة كقولهعَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } المزمل 20 يعني تخفف عنكم، وكقولهفَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ ٱللَّهِ } النساء 92 يعني تخفيفاً، وهكذا قوله { ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ } يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة، والتسهيل. وقوله { وَٱبْتَغُواْ } قيل هو الولد، أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح، وهو حصول النسل. وقيل المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه، قاله الزجاج وغير. وقيل ابتغوا الرخصة، والتوسعة. وقيل ابتغوا ما كتب لكم من الإماء، والزوجات. وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دل عليه دليل آخر. وقرأ الحسن البصري «واتبعوا» بالعين المهملة من الإتباع. وقوله { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } هو تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذَنَب السِّرْحان، فإنه الفجر الكذاب، الذي لا يحلّ شيئاً، ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود سواد الليل، والتبين أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ } فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق، وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم، ويحلّ له الأكل، والشرب وغيرهما. وقول { وَلاَ تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَـٰجِدِ } قيل المراد بالمباشرة هنا الجماع. وقيل تشمل التقبيل، واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء، والشافعي، وابن المنذر، وغيرهم، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر، ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة، والاعتكاف في اللغة الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه، ومنه قول الشاعر

السابقالتالي
2 3 4