الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } * { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قد تقدّم معنى { كتب } قريباً، وحضور الموت حضور أسبابه، وظهور علاماته، ومنه قول عنترة
وإنَّ الموْتَ طَوعُ يَدي إذَا مَا وَصِلْتُ بَنَانهـا بالهنِدوانِي   
وقال جرير
أنَا المْوتَ الَّذي حُدِّثْتَ عَنْه فَلَيْس لِهَارب منِّي نَجَاةُ   
وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو { كتب } لوجود الفاصل بينهما، وقيل لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل. وقد حكى سيبويه قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش، وجهان أحدهما أن التقدير إن ترك خيراً، فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر
مَنْ يَفْعَل الحسَنَاتِ الله يَشْكُرها والشَّرّ بالشرّ عِنْد اللهِ مِثلانِ   
والثاني أن جوابه مقدّر قبله أي كتب الوصية للوالدين، والأقربين إن ترك خيراً. واختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل ألف دينار، وقيل ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل عبارة عن الأمر بالشيء، والعهد به في الحياة، وبعد الموت، وهي هنا عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت. وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك، فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً، أو غنياً، وقالت طائفة إنها واجبة، ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين، والأقربين، فقيل الخمس. وقيل الربع. وقيل الثلث. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا وهي، وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين مَنْ لا يرث كالأبوين الكافرين، ومَنْ هو في الرقّ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه. وقال بعض أهل العلم إنه نسخ الوجوب، وبقي الندب، وروي عن الشعبي، والنخعي، ومالك، قوله { بِٱلْمَعْرُوفِ } ، أي العدل لا وكس فيه، ولا شطط. وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. وقوله { حَقّاً } ، مصدر معناه الثبوت، والوجوب. قوله { فَمَن بَدَّلَهُ } هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله { سَمِعَهُ } ، والتبديل التغيير، والضمير في قوله { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } راجع إلى التبديل المفهوم من قوله { بَدَّلَهُ } وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق، التي لا جَنَف فيها ولا مضارَّة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.

السابقالتالي
2 3