الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

قوله { كتبُ } ِ معناه فرض، وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة
كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانِيات جَرُّ الذُّيَولِ   
وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك. وقيل إن { كتب } هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و { ٱلْقِصَاصُ } أصله قص الأثر أي اتباعه، ومنه القاصّ لأنه يتتبع الآثار، وقصّ الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل، يقصّ أثره فيها، ومنه قوله تعالىفَٱرْتَدَّا عَلَىٰ ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } الكهف 64. وقيل إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعته. وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي وروى ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالىوَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } المائدة 45 وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى { ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ } مفسر لقوله تعالى { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } وقالوا أيضاً إن قوله { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة. ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ويجاب عنه بأنه مجمل، والآية مبينة، ولكنه يقال إن قوله تعالى { ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ } إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم الكوفيون، والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبو ثور. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة، ولا زيادة، وهو الحق.

السابقالتالي
2 3 4