الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

{ مّثْلُهُمْ } مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله { كَمَثَلِ } لأنها اسم أي مثل، مثل كما في قول الأعشى
أتنتهون ولن تنهى ذوى شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل   
وقول امرىء القيس
ورحنا بِكَابنِ الماء يجنب وسطنا تصوّب فيه العين طوراً وترتقى   
أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل الشبه، والمثلان المتشابهان و { ٱلَّذِى } موضوع موضع الذين أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب، كقول الشاعر
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أمّ خالد   
ومنهوَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } التوبة 69 ومنهوَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } الزمر 33. ووقود النار سطوعها وارتفاع لهيبها، و { استوقد } بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر
ودَاعٍ دَعا يا من يُجيب إلى الندا فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ   
أي يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و { مَا حَوْلَهُ } قيل ما زائدة. وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية، و { ذَهَبَ } من الذهاب، وهو زوال الشيء. و { *تركهم } أي أبقاهم { ظُلُمَـٰتٍ } جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور. و { صُمٌّ } وما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم. وقرأ ابن مسعود " صماً بكماً عمياً " بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله { تركهم }. والصمم الانسداد، يقال قناة صماء إذا لم تكن مجوّفة،. وصممت القارورة إذا سددتها، وفلان أصمّ إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم، فهو الأخرس. وقيل الأخرس والأبكم واحد. والعمى ذهاب البصر. والمراد بقوله { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي إلى الحق، وجواب لما في قوله { فَلَمَّا أَضَاءتْ } ، قيل هو { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } وقيل محذوف تقديره طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر. ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم «للباطل صولة ثم يضمحلّ» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته، ومواعظه.

السابقالتالي
2