الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } * { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } * { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } * { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } * { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي كرّرنا ورددنا { فِى هَـٰذَا القرآن للناس } أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم { مِن كُلّ مَثَلٍ } من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } قال الزجاج المراد بالإنسان الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى { وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ } وقيل المراد به في الآية النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال " ألا تصليان؟ " فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } ، وانتصاب جدلاً على التمييز. { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأوَّلِينَ } قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أنّ أن الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف، أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجاج سنّتهم هو قولهمإِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية الأنفال 2 { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي عذاب الآخرة { قُبُلاً } قال الفراء إن قبلاً جمع قبيل، أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً، وقيل فجأة. ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيـى بن وثاب وخلف { قُبُلاً } بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني، أي عياناً، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة، وقرىء بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.

السابقالتالي
2 3