الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } * { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها، وقد تقدّم هذا المثل في سورة يونس، ثم بيّن سبحانه هذا المثل فقال { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاء } ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني { لقوله } اضرب على جعله بمعنى صير { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأرْضِ } أي اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى وقيل المعنى إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، فتكون الباء في { به } سببية { فَأَصْبَحَ } النبات { هَشِيمًا } الهشيم الكسير، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن، وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده، ومنه قول ابن الزبعري
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف   
{ تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ } تفرقه. قال أبو عبيدة وابن قتيبة تذروه تنسفه. وقال ابن كيسان تذهب به وتجيء، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرّف تذريه الريح قال الكسائي وفي قراءة عبد الله تذريه يقال ذرته الريح تذروه، وأذرته تذريه. وحكى الفراء أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا } أي على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } هذا ردّ على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرىإِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ } التغابن 15. وقالإِنَّ مِنْ أَزْوٰجِكُمْ وَأَوْلـٰدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } التغابن 14. ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله { وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ } أي أعمال الخير، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثواباً، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي أفضل أملاً، يعني أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرّج مخرج قوله تعالىأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } الفرقان 24. والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.

السابقالتالي
2