الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } * { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }

قوله { وَٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه، قيل ويحتمل أن يكون معنى قوله { واتل } واتبع، أمراً من التلوّ، لا من التلاوة، و { مِن كِتَـٰبِ رَبّكَ } بيان للذي أوحي إليه { لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ } أي لا قادر على تبديلها وتغييرها، وإنما يقدر على ذلك هو وحده. قال الزجاج أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدّل له، وعلى هذا يكون التقدير لا مبدّل لحكم كلماته { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } الملتحد الملتجأ، وأصل اللحد الميل، قال الزجاج لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى أنك إن لم تتبع القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه. وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف. ثم شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } قد تقدّم في الأنعام نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقولهوَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الأنعام 52 وأمره سبحانه ههنا بأن يحبس نفسه معهم، فصبر النفس هو حبسها، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات، وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمٰن وابن عامر بالغدوة بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو. قال النحاس وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أنهم يريدون بدعائهم رضى الله سبحانه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم. قال الفراء معناه لا تصرف عيناك عنهم، وقال الزجاج لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبوّ، من عدوته عن الأمر، أي صرفته منه، وقيل معناه لا تحتقرهم عيناك { تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي مجالسة أهل الشرف والغنى، والجملة في محل نصب على الحال، أي حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين، فالتقدير مريدة زينة الحياة الدنيا، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر
لمن زحلوقة زل بها العينان تنهلّ   
{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } أي جعلناه غافلاً بالختم عليه، نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } أي متجاوزاً عن حدّ الاعتدال، من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً للخيل فهو على هذا من الإفراط.

السابقالتالي
2 3 4 5 6