الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } * { وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } * { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }

قوله { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } هو مصدر سبح، يقال سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً، مثل كفر اليمين تكفيراً وكفراناً، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص. وقال سيبويه العامل فيه فعل لا من لفظه، والتقدير أنزه الله تنزيهاً، فوقع سبحان مكان تنزيهاً، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء وقيل هو علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه، وقد قدّمنا في قولهسُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } البقرة 32. طرفاً من الكلام المتعلق بسبحان. والإسراء قيل هو سير الليل، يقال سرى وأسرى، كسقى وأسقى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله
حي النضير ربة الخدر أسرت إليّ ولم تكن تسري   
وقيل هو سير أوّل الليل خاصة، وإذا كان الإسراء لا يكون إلاّ في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة، فقيل أراد بقوله { ليلاً } تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة. ووجه دلالة { ليلاً } على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية، بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً. وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل. وقال الزجاج معنى { أسرى بعبده ليلاً } سير عبده، يعني محمداً ليلاً، وعلى هذا فيكون معنى أسرى معنى سير، فيكون للتقيد بالليل فائدة، وقال { بعبده } ولم يقل بنبيه أو رسوله، أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم. قال أهل العلم لو كان غير هذا الاسم أشرف منه، لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم، والحالة العلية
لا تدعني إلا بياعبدها فإنه أشرف أسمائي ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي   
{ مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قال الحسن وقتادة يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن. وقال عامة المفسرين أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء، فحملوا المسجد الحرام على مكة، أو الحرام، لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام، أو لأن الحرم كله مسجد. ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله إليها فقال { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلاْقْصَى } وهو بيت المقدس. وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، ولم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله { ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة. وفي { باركنا } بعد قوله { أسرى } التفات من الغيبة إلى التكلم. ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال { لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا } أي ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل { إنَّهُ } سبحانه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وسلم { ٱلبَصِيرُ } بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله.

السابقالتالي
2 3 4