الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } * { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } * { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } * { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } * { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } * { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } * { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } * { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } * { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }

قوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً وقيل إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده { إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ } قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه. { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } أي الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص. غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه. ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قولهوَقَضَىٰ رَبُّكَ } الإسراء 23 والمراد بذي القربى ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها، وكرّر التوصية فيها. والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد. والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال { وَٱلْمَسَـٰكِين } معطوف على { ذا القربى } ، وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي { وَٱبْن ٱلسَّبِيلِ } معطوف على المسكين، والمعنى وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه. وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة، وفي التوبة، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة. ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا، نهى عن التبذير فقال { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } التبذير تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق، أو هو الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيراً. قال الشافعي التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا وهذا قول الجمهور. قال أشهب عن مالك التبذير هو أخذ المال من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ } فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة المماثلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به { وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا } أي كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8