الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

قوله { والله جعل لكم } معطوف على ما قبله. وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. وهو بمعنى مسكون، أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة. وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ٱلأَنْعَـٰمِ بُيُوتًا } لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة، عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة، أي جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب { تَسْتَخِفُّونَهَا } أي يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } والظعن بفتح العين وسكونها، وقرىء بهما سير أهل البادية للانتجاع والتحوّل من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببيتهم الغراب الأبقع   
والظعن الهودج أيضاً { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـٰثاً } معطوف على { جعل } أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها. والأنعام تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم. والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث، أي كثير مجتمع، قال الشاعر
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل   
قال الخليل أثاثاً، أي منضماً بعضه إلى بعض، من أثّ إذا أكثر، قال الفراء لا واحد له، والمتاع ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري إن الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى { إِلَىٰ حِينٍ } إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة. ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال { وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلاً } أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة، والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ. ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَـٰناً } وهي جمع كنّ وهو ما يستكنّ به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها، ويعتزلون عن الخلق فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } جمع سربال، وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها.

السابقالتالي
2 3