الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } * { مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } قد قدّمنا أن ضرب مضمن معنى جعل، حتى تكون { قرية } المفعول الأوّل و { مثلاً } المفعول الثاني، وإنما تأخرت { قرية } لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها. وقدّمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون { ضرب } على بابه غير مضمن، ويكون { مثلاً } مفعوله الأوّل وقرية بدلاً منه. وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد قرية غير معينة؟ بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني أرجح، لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدليّ دخولاً أوّلياً. وأيضاً يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها. وعلى فرض إرادتها، ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها. ثم وصف القرية بأنها { كَانَتْ ءامِنَةً } غير خائفة { مُّطْمَئِنَّةً } غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أي ما يرتزق به أهلها { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها { فَكَفَرَتْ } أي كفر أهلها { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } التي أنعم بها عليهم، والأنعم جمع نعمة كالأشدّ جمع شدّة. وقيل جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ } أي أذاق أهلها { لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال، وشحوبة اللون، وسوء الحال، ما هو كاللباس، فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم. ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدّة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين إدراك اللمس، والذوق. روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي - إمام اللغة والأدب - هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي لا بأس أيها النسناس، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع، أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي. وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف، لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له، وهو الجوع والخوف لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة، فيقولون ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجرّدة. ولو قال فكساها كانت مرشحة. قيل وترشيح الاستعارة، وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة، إلاّ أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له، فازداد الكلام وضوحاً.

السابقالتالي
2 3 4