الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

قوله { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ } قد اختلف أهل العلم في إعرابه، فذهب الأكثرون على أنه بدل إما من { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } وما بينهما اعتراض، والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلا يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وإما من المبتدأ الذي هو { أُوْلَـٰئِكَ } أو من الخبر الذي هو { ٱلْكَـٰذِبُونَ }. وذهب الزجاج إلى الأوّل. وقال الأخفش إن { من } مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر { من } الثانية، كقولك من يأتنا منكنّ نكرمه. وقيل هو أي { من } في { من كفر } منصوب على الذمّ وقيل إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب «من شرح» دالّ عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها، فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلاّ من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلاّ من الكافر لولا الإكراه. قال القرطبي أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر، كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسنّة. وذهب الحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول. وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب، لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول. وجملة { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } في محل نصب على الحال من المستثنى، أي إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم، وهو الجمع للمرتدين، بين غضب الله وعظيم عذابه. والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في { بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَوٰةَ الدنيا } للسببية، أي ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا { عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } معطوف على { أَنَّهُمْ ٱسْتَحَبُّواْ } أي ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به.

السابقالتالي
2 3 4