الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

قوله { المر } قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف. أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الأول هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله { تِلْكَ } إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب السورة أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله { وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ٱلْحَقُّ } مراداً به القرآن كله، أي هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله { تِلْكَ } إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن. ويكون قوله { وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ٱلْحَقُّ } جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء { والذي } رفع بالاستئناف وخبره { الحق } ، قال وإن شئت جعلت { الذي } خفضَا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله
إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ   
ويجوز أن يكون محل { والذي أنزل إليك } الجرّ على تقدير وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الحق الذي أنزله الله عليك. قال الزجاج لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } والعمد الأساطين جمع عماد أي قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج العمد قدرته التي يمسك بها السمٰوات، وهي غير مرئية لنا، وقرىء " عمد " على أنه جمع عمود يعمد به، أي يسند إليه. قال النابغة
وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد   
وجملة { ترونها } مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك. وقيل هي صفة لعمد، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير رفع السمٰوات ترونها بغير عمد، ولا ملجىء إلى مثل هذا التكلف { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق، ومصالح العباد { كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى } أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر، وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } أي يصرّفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } أي يبينها، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله { ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ } على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } أي لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه، ولا تمترون في صدقه.

السابقالتالي
2 3 4 5