الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } * { قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ }

قوله { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أي زينت، والأمر هنا قولهم { إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } وما سرق في الحقيقة، وقيل المراد بالأمر إخراجهم بنيامين، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرّة. وقيل التسويل التخييل، أي خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له. وقيل الأمر الذي سوّلت لهم أنفسهم فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدّر كغيرها، وجملة { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل بي، وأولى لي، والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى، بل يُفوّضُ أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أوّل الصدمة { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } أي بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدّم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باقٍ على الحياة وإن غاب عنه خبره { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ } بحالي، { ٱلْحَكِيمُ } فيما يقضي به { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } أي أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم وقال { يا أسفا على يوسف }. قال الزجاج الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة، والأسف شدة الجزع. وقيل شدة الحزن، ومنه قول كثير
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت   
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روي عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع، والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال { يا أسفا على يوسف }. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال تعال يا أسفي، وأقبل إليّ { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ } أي انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء. قيل إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة. وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذٍ كفار. وقيل إن مجرد الحزن ليس بمحرّم، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم

السابقالتالي
2 3 4 5