الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }

معنى { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } دعاه، والمراد أراد دعاءه، بدليل الفاء في { فَقَالَ رَبّ إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى } وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلا بدّ من التقدير المذكور، ومعنى قوله { إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى } أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك وأهلك. فإن قيل كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله { وَأَهْلَكَ } وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ }؟ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } الذي لا خلف فيه، وهذا منه { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل أراد بـ { أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم أي أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم. وقيل إن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال { يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين آمنوا بك، وتابعوك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين، لا قرابة النسب، وحده، فقال { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ } قرأ الجمهور { عمل } على لفظ المصدر. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكسائي، ويعقوب، { عمل } على لفظ الفعل ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه، كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره. ومعنى القراءة الثانية ظاهر أي إنه عمل عملاً غير صالح، وهو كفره وتركه لمتابعة أبيه ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال { فَلا تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرّع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أوّلياً، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } أي أحذرك أن تكون من الجاهلين، كقولهيَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } النور 17 وقيل المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين. ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشىء عن وهم كان يتوهمه، بادر إلى الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة، فقال { رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، { وإلا تَغْفِرْ لِى } ذنب ما دعوت به على غير علم مني { وَتَرْحَمْنِى } برحمتك التي وسعت كل شيء، فتقبل توبتي { أَكُن مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } في أعمالي، فلا أربح فيها.

السابقالتالي
2 3