الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }

يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قولهوَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } ق 39 وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية. وقال ههنا بالغدو، وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل كما أن الأيمان جمع يمين، وأما قوله { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول، لا جهراً، ولهذا قال { وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء وجهراً بليغاً، ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجلوَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } البقرة 186. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالىوَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً } الإسراء 110 فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن، سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتخذ سبيلاً بين الجهر والإسرار، وكذا قال في هذه الآية الكريمة { وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلأَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ } وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به، ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم، أو في الصلاة والخطبة، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سراً أو جهراً، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل، كما جاء في الحديث " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف " وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع، وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن.