الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } * { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه في الثرى، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، من النوى، ولهذا فسر قوله { فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } بقوله { يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَىِّ } أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى، الذي هو كالجماد الميت كقولهوَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـٰهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } يس 33 إلى قولهوَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } يس 36 وقوله { وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَىِّ } معطوف على { فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } ثم فسره، ثم عطف عليه قوله { وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَىِّ } وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة، وعكسه، ومن قائل يخرج الولد الصالح من الفاجر، وعكسه، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها. ثم قال تعالى { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ } أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي كيف تصرفون عن الحق، وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره؟ وقوله { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً } أي خالق الضياء والظلام، كما قال في أول السورةوَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } الأنعام 1 أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه كقولهيُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } الأعراف 54 فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة، الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله { وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً } أي ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء، كما قالوَٱلضُّحَىٰ وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } الضحى 1 - 2 وقالوَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } وقال الليل1-2 وقالوَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّـٰهَا وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَـٰهَا } الشمس3-4 وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته، وقد عاتبته في كثرة سهره إن الله جعل الليل سكناً إلا لصهيب، إن صهيباً إذا ذكر الجنة، طال شوقه، وإذا ذكر النار، طار نومه، رواه ابن أبي حاتم. وقوله { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً } أي يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً، كما قالهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } يونس 5 الآية، وكما قاللاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِك ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يس40 وقالوَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِ } الأعراف 54. وقوله { ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله

السابقالتالي
2