الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } * { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } * { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } * { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } * { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } * { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } * { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } * { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } * { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } * { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } * { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } * { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } * { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } * { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }

يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } وهو جبريل عليه الصلاة والسلام كما قال تعالىإِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَـٰعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } التكوير 19 ــــ 21 وقال ههنا { ذُو مِرَّةٍ } أي ذو قوة، قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس ذو منظر حسن، وقال قتادة ذو خلق طويل حسن. ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " وقوله تعالى { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل عليه السلام، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد هو مطلع الشمس. وقال قتادة هو الذي يأتي منه النهار، وكذا قال ابن زيد وغيرهم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة، حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف، حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس، عن إسحاق بن أبي الكهتلة، أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما واحدة، فإنه سأله أن يراه في صورته، فسد الأفق. وأما الثانية، فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }. وقد قال ابن جرير ههنا قولاً لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى أي هذا الشديد القوي ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، أي استويا جميعاً بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء، كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية، فقال وهو كقوله { أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ } فعطف بالآباء على المكنى في كنا، من غير إظهار نحن، فكذلك قوله فاستوى وهو، قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّبْعَ يَصْلُبُ عودُهُ ولا يَسْتَوي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ   
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه، وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مراراً ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما هم بذلك، ناداه جبريل من الهواء يا محمد أنت رسول الله حقاً، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد عظم خلقه الأفق، فاقترب منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد