الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } * { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

يقول تعالى لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجللاَ يَسْتَوِىۤ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } الحشر 20 وقال تبارك وتعالى هاهنا { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَـٰتِ } أي عملوها وكسبوها { أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَوَآءً مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار، في الدار الآخرة وفي هذه الدار. قال الحافظ أبو يعلى حدثنا مؤمل بن إهاب، حدثنا بكير بن عثمان التنوخي، حدثنا الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان، فمن صبر عليهن، ولم يعمل بهن، لقي الله من الفاسقين، قيل وما هن يا أبا ذر؟ قال يسلم حلال الله لله، وحرام الله لله، وأمر الله لله، ونهي الله لله، لا يؤتمن عليهن إلا الله. قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار " هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجراً بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه تعملون السيئات، وترجون الحسنات، أجل كما يجنى من الشوك العنب. وروى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميماً الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَـٰتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ }؟ ولهذا قال تعالى { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } وقال عز وجل { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي بالعدل { وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }. ثم قال جل وعلا { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }؟ أي إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسناً فعله، ومهما رآه قبيحاً تركه، وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوى شيئاً إلا عبده، وقوله { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } يحتمل قولين أحدهما وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، والآخر وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } أي فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئاً يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها. ولهذا قال تعالى { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }؟ كقوله تعالى { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ }.