الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } * { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }

يقول تعالى لهذه الأمة { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلِدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِىۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام، وهو نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم، وهم إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم. وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالىوَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } الأحزاب 7 الآية. والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجلوَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلآ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } الأنبياء 25. وفي الحديث " نحن معشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد " أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلالهلِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } المائدة 48 ولهذا قال تعالى ههنا { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وقوله عز وجل { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي شق عليهم، وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله { ٱللَّهُ يَجْتَبِىۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد، ولهذا قال تبارك وتعالى { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة. ثم قال عز وجل { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً. وقوله جلت عظمته { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِهِمْ } يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.