الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } * { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } * { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } * { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ }

يقول تعالى إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحاً، ولهذا قال تعالى { فَهُم مُّقْمَحُونَ } والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين كما قال الشاعر
فما أَدري إذا يَمَّمْتُ أَرْضاً أُريدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلِيني أألخيرُ الذي أنا أَبْتَغيهِ أَمِ الشَّرُّ الذي لا يَأْتَليني؟   
فاكتفى بذكر الخير عن الشر، لما دل الكلام والسياق عليه، وهكذا هذا، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { إِنَّا جَعَلْنَا فِىۤ أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَـٰنِ } قال هو كقوله عز وجلوَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } الإسراء 29 يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد { فَهُم مُّقْمَحُونَ } قال رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير. وقوله تعالى { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } قال مجاهد عن الحق، { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } قال مجاهد عن الحق، فهم يترددون. وقال قتادة في الضلالات. وقوله تعالى { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } أي أغشينا أبصارهم عن الحق، { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ { فأعشيناهم } بالعين المهملة من العشا، وهو داء في العين، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأإِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } يونس 96 ــــ 97 ثم قال من منعه الله تعالى، لا يستطيع. وقال عكرمة قال أبو جهل لئن رأيت محمداً، لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت { إِنَّا جَعَلْنَا فِىۤ أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً } ــــ إلى قوله ــــ { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال وكانوا يقولون هذا محمد، فيقول أين هو، أين هو؟ لا يبصره، رواه ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال قال أبو جهل وهم جلوس إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه، كنتم ملوكاً، فإذا متم، بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إن خالفتموه، كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه، فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ { يسۤوَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } ــــ حتى انتهى إلى قوله تعالى.

السابقالتالي
2 3 4 5