الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } * { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقيل في قرية، ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم، ولهذا قال تعالى { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } قال وهب بن منبه هي قرى بصنعاء، وكذا قال أبو مالك، وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم يعني قرى الشام، يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة. وقال العوفي عن ابن عباس القرى التي باركنا فيها بيت المقدس، وقال العوفي عنه أيضاً هي قرى عربية بين المدينة والشام { قُرًى ظَـٰهِرَةً } أي بينة واضحة يعرفها المسافرون، يقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى، ولهذا قال تعالى { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ } أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً، { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } وقرأ آخرون { بعد بينَ أسفارنا } وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد، وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل، والسير في الحرور والمخاوف كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى، وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة، ولهذا قال لهمأَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } البقرة 61 وقال عز وجلوَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } القصص 58 وقال تعالىوَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } النحل 112. وقال تعالى في حق هؤلاء { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي بكفرهم، { فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْكُلَّ مُمَزَّقٍ } أي جعلناهم حديثاً للناس، وسمراً يتحدثون به من خبرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، تفرقوا في البلاد ههنا وههنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال سمعت أبي يقول سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ــــ إلى قوله تعالى ــــ { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } وكانت فيهم كهنة، وكانت الشياطين يسترقون السمع، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال، وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا، وأن العذاب قد أظلهم، فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار، فقال لرجل من بنيه، وهو أعزهم أخوالاً يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر، فلا تفعله، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا لطمتك فالطمني، قال يا أبت لا تفعل، إن هذا أمر عظيم وأمر شديد، قال يا بني قد حدث أمر لا بد منه، فلم يزل به حتى وافاه على ذلك، فلما أصبحوا واجتمع الناس قال يابني افعل كذا وكذا، فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال ابني يلطمني؟ علي بالشفرة، قالوا ما تصنع بالشفرة؟ قال أذبحه، قالوا تريد أن تذبح ابنك؟ الطمه، أو اصنع ما بدا لك، قال فأبى، قال فأرسلوا إلى أخواله، فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا خذ منا ما بدا لك، فأبى إلا أن يذبحه، قالوا فلتموتن قبل أن تذبحه، قال فإذا كان الحديث هكذا، فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه، اشتروا مني دوري، اشتروا مني أرضي، فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره، فلما صار الثمن في يده وأحرزه، قال أي قوم إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم داراً جديداً، وحمى شديداً، وسفراً بعيداً، فليلحق بعمان، ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير ــــ وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ــــ فليلحق ببصرى، ومن أراد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق بيثرب ذات نخل، فأطاعه قومه، فخرج أهل عمان إلى عمان.

السابقالتالي
2 3 4