الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }

يقول تعالى أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثرهَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } مريم 98 ولهذا قال { يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ } أي هؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين، فلا يرون منها أحداً ممن يسكنها ويعمرها، ذهبوا منهاكَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } الأعراف 92 كما قالفَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ } النمل 52 وقالفَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ } -إلى قوله -وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ } الحج 45 ــــ 46 ولهذا قال ههنا { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ } أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، لآيات وعبراً ومواعظ ودلائل متناظرة، { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم؟ وقوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } يبين تعالى لطفه بخلقه، وإحسانه إليهم في إرساله الماء، إما من السماء، أو من السيح، وهو ما تحمله الأنهار، ويتحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته، ولهذا قال تعالى { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } وهي التي لا نبات فيها، كما قال تعالىوَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } الكهف 8 أي يبساً لا تنبت شيئاً، وليس المراد من قوله { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } أرض مصر فقط، بل هي بعض المقصود، وإن مثل بها كثير من المفسرين، فليست هي المقصودة وحدها، ولكنها مرادة قطعاً من هذه الآية، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً، لتهدمت أبنيتها، فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، وفيه طين أحمر، فيغشى أرض مصر، وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضاً، لينبت الزرع فيه، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. قال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال لما فتحت مصر، أتى أهلها عمرو بن العاص، وكان أميراً بها حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال وما ذاك؟ قالوا إن كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة، والنيل لا يجري، حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتابه، أخذ عمرو البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك، فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.

السابقالتالي
2