الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ }

يقول تعالى { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر
وداعٍ دَعا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ   
قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن سلمة، رجل من آل أم سلمة، قال قالت أم سلمة يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار هي أول ظعينة قدمت علينا. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، ثم قال صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت آخر آية نزلت هذه الآية { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } إلى آخرها، رواه ابن مردويه، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالىوَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة 186 وقوله تعالى { أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مجيباً لهم إنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي جميعكم في ثوابي سواء، { فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } أي تركوا دار الشرك، وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالىيُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّـٰكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } الممتحنة 1 وقال تعالىوَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } البروج 8. وقوله تعالى { وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال " نعم " ثم قال " كيف قلت؟ " فأعاد عليه ما قال، فقال " نعم، إلا الذي، قاله لي جبريل آنفاً " ولهذا قال تعالى { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَـٰتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

السابقالتالي
2