الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ }

هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة " الصافات " ، وفي سورة " ن " ، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالىفَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } يونس 98. وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة، فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالىفَسَـٰهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } الصافات 141 أي وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ــــ فيما قاله ابن مسعود ــــ حوتاً يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً، ولا تهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً، وإنما بطنك تكون له سجناً. وقوله { وَذَا ٱلنُّونِ } يعني الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله { إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِباً } قال الضحاك لقومه، { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي نضيق عليه في بطن الحوت، يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالىوَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } الطلاق 7 وقال عطية العوفي { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } ، أي نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول قدر وقدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر
فلا عائِدٌ ذاكَ الزمانُ الذي مَضى تباركْتَ ما تَقْدِرْ يَكُنْ فَلَكَ الأَمْرُ   
ومنه قوله تعالىفَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } القمر 12 أي قدر. { فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } قال ابن مسعود ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر، قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } وقال عوف الأعرابي لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه، فلما تحركت، سجد مكانه، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس.

السابقالتالي
2 3 4