يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } الأنعام 83 وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج بعد أيام، فنظر إلى الكوكب والمخلوقات، فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم، فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق، مما بأيدينا عن المعصوم، قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئاً من ذلك، رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة، لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفاً، وما كان من هذا الضرب منها، فقد رخص كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم، لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي من قبل ذلك. وقوله { وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ } أي وكان أهلاً لذلك، ثم قال { إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَـٰثِيلُ ٱلَّتِىۤ أَنتُمْ لَهَا عَـٰكِفُونَ } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَـٰثِيلُ ٱلَّتِىۤ أَنتُمْ لَهَا عَـٰكِفُونَ } أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها. { قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـٰبِدِينَ } لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم، { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللَّـٰعِبِينَ } يقولون هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً، أم محقاً فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِى فطَرَهُنَّ } أي ربكم الذي لا إله غيره، وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء { وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.