الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } * { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً } * { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } * { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً }

وهذا أيضاً تضمن محذوفاً، تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ } أي تعلم الكتاب بقوة، أي بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } أي الفهم والعلم، والجد والعزم، والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث، قال عبد الله بن المبارك قال معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب، فقال ما للعب خلقت، فلهذا أنزل الله { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً }. وقوله { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } يقول ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك، وزاد لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } وتعطفاً من ربه عليه. وقال عكرمة { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } قال محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان، فالمحبة، وقال عطاء بن أبي رباح { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } قال تعظيماً من لدنا، وقال ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال لا والله ما أدري ما حناناً. وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن منصور، سألت سعيد بن جبير عن قوله { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا } فقال سألت عنها ابن عباس، فلم يجد فيها شيئاً، والظاهر من السياق أن قوله وحناناً، معطوف على قوله { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } أي وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل، كما تقول العرب حنت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة " حَنّة " من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاك المَليكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقامِ مَقالا   
وفي " المسند " للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان " وقد يثنى، ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة
أنا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنا حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ منْ بَعْضِ   
وقوله { وَزَكَوٰةً } معطوف على وحناناً، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب، وقال قتادة الزكاة العمل الصالح، وقال الضحاك وابن جريج العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس { وَزَكَوٰةً } قال بركة، { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر، فلم يعمل بذنب. وقوله { وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً، أمراً ونهياً، ولهذا قال { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك { وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.

السابقالتالي
2