الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي، فقال { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائحمِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } هود 40 أي من كل شكل صنفان { يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } أي جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، فإذا ذهب هذا، غشيه هذا، وإذا انقضى هذا، جاء الآخر، فيتصرف أيضاً في الزمان، كما يتصرف في المكان والسكان، { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي في آلاء الله وحكمه ودلائله. وقوله { وَفِى ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرَٰتٌ } أي أراض يجاور بعضها بعضاً، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً، هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وقوله { وَجَنَّـٰتٌ مِّنْ أَعْنَـٰبٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } يحتمل أن تكون عاطفة على جنات، فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب، فيكون مجروراً، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة. وقوله { صِنْوَٰنٌ وَغَيْرُ صِنْوَٰنٍ } الصنوان هو الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين، وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر " أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه " وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه الصنوان هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان المتفرقات، وقاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد. وقوله { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَٰحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأُكُلِ } قال الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأُكُلِ } قال " الدقل، والفارسي، والحلو، والحامض " ، رواه الترمذي وقال حسن غريب، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أزرق، وكذلك الزهورات، مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء، مع الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء، وخلقها على ما يريد، ولهذا قال تعالى { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.