الرئيسية - التفاسير


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } * { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } * { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال، وقرىء { ٱلْفُلْكِ } بالتثقيل و «بنعمات الله» بسكون العين، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. { لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَـٰتِهِ } دلائله. { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ } على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. { شَكُورٍ } يعرف النعم ويتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.

{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ } علاهم وغطاهم. { مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ } كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، وقرىء كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال. د { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. { فَلَمَّا نَجَّـٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. { وَمَا يَجْحَدُ بِـئَايَـٰتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ } غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. { كَفُورٌ } للنعم.

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } لاَ يقضي عنه، وقرىء «لا يجزىء» من أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. { وَلاَ مَوْلُودٌ } عطف على { وَالِدٌ } أو مبتدأ خبره. { هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ } بالثواب والعقاب. { حَقّ } لا يمكن خلفه. { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.

{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } علم وقت قيامها. لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غداً وأين أموت؟ فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام " مفاتح الغيب خمس " وتلا هذه الآية. { وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ } في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. { وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأَرْحَامِ } أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك»، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه، وقرىء «بأية أرض» وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في { كُلُّهُنَّ }.

السابقالتالي
2