الرئيسية - التفاسير


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له، اعترافاً بفضله، وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه، وقيل: أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله. والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلا عطفه بما يقدر عاملاً فيه على الجملة المتقدمة، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى، وهي نعمة رابعة عدها عليهم. والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر:
تَرَى الأَكمَ فيها سُجَّداً للحَوافِر   
وقال آخر:
وَقُلْنَ لَه اسْجُدْ لِلَيلى فَاسْجَدَا   
يعني البعير إذا طأطأ رأسه. وفي الشرع: وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيماً لشأنه، أو سبباً لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات، أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته، وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه:
أَليْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لقبلتِكُمْ   وأَعْرَفَ الناسِ بالقرآنِ والسُّنَنِ
أو في قوله تعالى:أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له، كسجود إخوة يوسف له، أو التذلل والإنقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم. والكلام في أن المأمورين بالسجود، الملائكة كلهم، أو طائفة منهم ما سبق.

{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ } امتنع عما أمر به، استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه. والإباء: امتناع باختيار. والتكبر: أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره. والاستكبار طلب ذلك بالتشبع.

{ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله:أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } [الأعراف: 12] جواباً لقوله:مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَـٰلِينَ } [ص: 75] لا بترك الواجب وحده. والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له، ولو من وجه، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى:إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ }

السابقالتالي
2