الرئيسية - التفاسير


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ }

{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة، وتهالكهم على المعازة والمعارة، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه. وإنما قال: { مّمَّا نَزَّلْنَا } لأن نزوله نجماً منجماً بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم، كما حكى الله عنهم فقالوَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً } [الفرقان: 32] فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاماً للحجة، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويهاً بذكره، وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى، وقرىء «عبادنا» يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته. والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السورة التي هي الرتبة، قال النابغة:
وَلرهْطِ حرابٍ وَقدٍّ سُورةٌ   في المجْدِ ليسَ غرابُها بمطَارِ
لأن السُورَ كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارىء، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة. وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء. والحكمة في تقطيع القرآن سوراً: إفراد الأنواع، وتلاحق الأشكال، وتجاوب النظم، وتنشيط القارىء، وتسهيل الحفظ، والترغيب فيه. فإنه إذا ختم سورة نَفَّسَ ذلك عنه، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تاماً، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد.

{ مّن مّثْلِهِ } صفة سورة أي: بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا، و (من) للتبعيض أو للتبيين. وزائدة عند الأخفش أي بسورةِ مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم. أو لعبدنا، و (من) للابتداء أي: بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم. أو صلة { فأتوا } ، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } ولسائر آيات التحدي، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فَحَقه أن لا ينفكَ عنه ليتسق الترتيب والنظم، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم: ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى:

السابقالتالي
2