الرئيسية - التفاسير


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } صفة ثانية، أو مدح منصوب، أو مرفوع، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه: بمعنى صار، وطفق فلا يتعدى كقوله:
فَقَدْ جعلتُ قلوصَ بني سُهَيل   مِنْ الأَكْوارِ مرتعُها قَريبُ
وبمعنى أوجد فيتعدّى إلى مفعول واحد كقوله تعالى:وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1] وبمعنى صير، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } والتصيير يكون بالفعل تارة، وبالقول أو العقد أخرى. ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً ظاهراً عن الماء، مع ما في طبعه من الإحاطة بها، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها. واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.

{ وَٱلسَّمَاء بِنَاءً } قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم، وقيل: جمع سماءة. والبناء مصدر، سمي به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء، ومنه بني على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباءً جديداً.

{ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } عطف على (جعل)، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشائها مدرجاً من حال إلى حال، صنائع وحكم يجدد فيها لأُولي الأبصار عبراً، وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة، و { مِنْ } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء، أو الفلك فإن المطر يبتدىء من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر. أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً. و { مِنْ } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى:فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } [فاطر: 27] واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقاً كأنه قال: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات، ولا جعل كل المرزوق ثماراً. أو للتبيين، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً. وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه، ويؤيده قراءة من قرأ: «من الثمرة» على التوحيد.

السابقالتالي
2