الرئيسية - التفاسير


* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

{ وَكَذٰلِكَ } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. { جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي خياراً، أو عدولاً مزكين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها، مستوياً فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } علة للجعل، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم، بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا. ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات، والإِعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم، أو بعدكم. روي " أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم الله ببينة التبليغ ـ وهو أعلم بهم ـ إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم " وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم. { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } أي الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفاً لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها " فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ. والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

{ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وما كان لعارض يزول بزواله. وعلى الأول معناه: ما رددناك إلى التي كنت عليها، إلا لنعلم الثابت على الإِسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه. فإن قيل: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالماً. قلت: هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، والمعنى ليتعلق علمنا به موجوداً.

السابقالتالي
2