الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } * { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } * { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ }

قوله تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي ليس يتصدق ليجازِيَ على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: " عَذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول أَحَد أَحَد فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد ـ يعني الله تعالى ـ ينجيك» ثم قال لأبي بكر: «يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله» فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليدٍ كانت له عنده " فنزلت { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ } أي عند أبي بكر { مِن نِّعْمَةٍ } ، أي من يدٍ ومِنَّة، { تُجْزَىٰ } بل { ٱبْتِغَآءَ } بما فعل { وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ }. وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبيّ بن خلف بِلالاً، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت:إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 4]. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أَتَبِيعُنِيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنِسطاس، وكان نِسْطاس عبداً لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ، وكان مشركاً، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له مالُه، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده فنزلت: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ } أي لكن ابتغاء فهو استثناء منقطع فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حماراً. ويجوز الرفع. وقرأ يحيـى بن وثاب «إلا ابتغاءُ وجهِ ربه» بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:
أضحتْ خَلاءً قِفاراً لا أنيسَ بها   إلا الجآذرَ والظلمانَ تختلفُ
وقول القائل:
وبلدةٍ ليسَ بها أنيسُ   إلا اليعافيرُ وإلا العِيسُ
وفي التنزيل:مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66] وقد تقدم. { وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } أي مَرْضاته وما يقرّب منه. و«الأعلى» من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون «ابتغاء وجهِ ربه» مفعولاً له على المعنى لأن معنى الكلام: لا يؤتِي ماله إلا ابتغاء وجهِ ربه، لا لمكافأة نعمته. { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } أي سوف يعطيه في الجنة ما يرْضى وذلك أن يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حَيّان التيميّ عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَحِم الله أبا بكر! زوجنِي ابنته، وحملني إلى دار الهِجرة، وأعتق بلالاً من ماله "

السابقالتالي
2