الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ }

فيه ست مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال ونظير هذه الآية قوله تعالىٰ:لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] وقوله:لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور: 61]. وروى أبو داود عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلاَّ وهم معكم فيه». قالوا يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال «حبسهم العذر» " فبيّنت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون فقال: ليس على هؤلاء حرج. { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب فخرج ابن أُم مكتوم إلى أُحُد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأُخرى فضرب اليد الأُخرى فأمسكه بصدره وقرأوَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } [آل عمران: 144[. هذه عزائم القوم. والحق يقول: «لَيْسَ عَلَىٰ الأَعْمَىٰ حَرَجٌ» وهو في الأوّل. «وَلاَ عَلَىٰ الأَعْرَجِ حَرَجٌ» وعمرو بن الجَمَوح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أوّل الجيش. قال له الرسول عليه السَّلام: " إن الله قد عذرك " فقال: والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة إلى أمثالهم حسب ما تقدّم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبد الله بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف. الثانية ـ قوله تعالىٰ: { إِذَا نَصَحُواْ } النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نَفْطَوَيْه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الدّاريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " «الدين النصيحة» ثلاثاً. قلنا لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم» " قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الإعتقاد في الوحدانية، ووصفُه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في مَحابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوّته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذبّ عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلّق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2 3