الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }

فيه ثمان مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئاً لأؤدّين فيه حقّه ولأتصدقنّ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُصّ عليكم، فٱحذروا الكذب فإنه يؤدّي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلِي: " أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري فسماه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ الله أن يرزقني مالاً. فقال عليه السلام «وَيْحَك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه». ثم عاود ثانياً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمَا ترضى أن تكون مثل نبيّ الله لو شئتُ أن تسير معي الجبال ذهباً لسارت». فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوتَ الله فرزقني مالاً لأعطينّ كلّ ذِي حقّ حقَّه. فدعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم فٱتخذ غنماً فنَمَت كما تَنْمِي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحّى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تَنَمِي حتى ترك الجمعة أيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا وَيْحَ ثعلبة» ثلاثاً. ثم نزل { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }. فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما: «مرَّا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بني سُليم ـ فخذا صدقاتهما». فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا " الحديث، وهو مشهور. وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورِث ابن عم له. قال ابن عبد البر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } الآية إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدراً يعارضه قوله تعالى في الآية:فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 77] الآية. قلت: وذُكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بَلْتَعة أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سَلِم ذلك لأتصدقنّ منه ولأصِلنّ منه. فلما سَلِم بَخِل بذلك فنزلت. قلت: وثعلبة بَدْرِي أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان حسب ما يأتي بيانه في أوّل الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نَبْتَل بن الحارث وجَدّ بن قيس ومُعَتِّب بن قشير. قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم إلا أن قوله { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } يدلّ على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقاً من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقاً ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } على ما يأتي.

السابقالتالي
2 3 4 5