الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأُولى ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } يقول: تُعِينوه بالنّفْر معه في غزوة تبَوُك. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السَّلام من تبوك. قال النقاش: هذه أوّل آية نزلت من سورة «براءة». والمعنى: إن تركتم نَصْره فالله يتكفّل به إذ قد نصره الله في مواطن القلّة وأظهره على عدوّه بالغلبة والعزة. وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السَّلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عُيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ }. الثانية ـ قوله تعالىٰ: { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهو خرج بنفسه فارّاً، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتّب الحكم فيه عليهم فلهذا يقتل المكرِه على القتل ويضمن المال المتلَف بالإكراه لإلجائه القاتل والمتلِف إلى القتل والإتلاف. الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } أي أحد ٱثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة. وهو منصوب على الحال أي أخرجوه منفرداً من جميع الناس إلاَّ من أبي بكر. والعامل فيها «نصره الله» أي نصره منفرداً ونصره أحد اثنين. وقال عليّ بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين مثلوَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17]. وقرأ جمهور الناس «ثانِيَ» بنصب الياء. قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة «ثانِي» بسكون الياء. قَال ٱبن جنِّي: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف. قال ٱبن عطية: فهي كقراءة الحسن «مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا» وكقول جرير:
هو الخليفة فَارْضَوْا ما رَضِي لَكُمُ   ماضِي العزيمةِ ما في حُكْمه جَنَفُ
الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثَوْر. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يُطاق فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمّى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشِيَهم النوم، فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض، فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أَرقْط.

السابقالتالي
2 3 4 5