الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }

قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }. فيه ثمان مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أُكلمك الشهور وحلف على ذلك فلا يكلمه حولاً قاله بعض العلماء. وقيل: لا يكلمه أبداً. ابن العربيّ: وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقلّ الجمع الذي يقتضيه صيغة فُعول في جمع فَعْل. ومعنى { عِندَ ٱللَّهِ } أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ. { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } أعربت «ٱثنا عشر شهراً» دون نظائرها لأنّ فيها حرف الإعراب ودليله. وقرأ العامة «عَشَر» بفتح العين والشين. وقرأ أبو جعفر «عَشْر» بجزم الشين. { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يريد اللوح المحفوظ. وأعاده بعد أن قال «عِنْدَ اللَّهِ» لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله كقوله:إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34.] الثانية ـ قوله تعالى: { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ } إنما قال «يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» ليبيّن أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً }. وحكمها باقٍ على ما كانت عليه لم يُزِلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها، وتقديمُ المقدّم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباعُ أمر الله فيها ورفضُ ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتّبوها عليه ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حَجّة الوداع: " أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " على ما يأتي بيانه. وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرّم صفراً وصفرٍ محرّماً ليس يتغيّر به ما وصفه الله تعالى. والعامل في «يوم» المصدر الذي هو «في كتاب الله»، وليس يعني به واحد الكُتُب لأن الأعيان لا تعمل في الظروف. والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض. و «عند» متعلق بالمصدر الذي هو العِدّة، وهو العامل فيه. و «في» من قوله: «فِي كِتَابِ اللَّهِ» متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله: «ٱثْنَا عَشَرَ». والتقدير: اثنا عشر شهراً معدودةً أو مكتوبة في كتاب الله. ولا يجوز أن تتعلق بِعدّة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إنّ. الثالثة ـ هذه الآية تدلّ على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقِبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعيّن له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج.

السابقالتالي
2 3 4