الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأُولى ـ قوله تعالى: { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فَعَل لمضارعة يَفْعَل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرُّهبان مجتهدو النصارى في العبادة. «بِالْبَاطِلِ» قيل: إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبِيع وغيرِ ذلك مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلّف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال كالذي ذكره سَلْمان الفارسِيّ عن الراهب الذي استخرج كنزه ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل: كانوا يأخذون من غَلاّتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدِّين والقيامِ بالشرع. وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحُكّام. وقوله: «بِالْبَاطِلِ» يجمع ذلك كله. { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، وٱتباع محمد صلى الله عليه وسلم. الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } الكنز أصله في اللغة الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام: " ألاَ أخبركم بخير ما يكنز المرءُ المرأة الصالحة " أي يضمه لنفسه ويجمعه. قال:
ولم تزوّد من جميع الكنز   غير خيوط ورَثِيث بَزِّ
وقال آخر:
لا دَرَّ درّي إن أطعمتُ جائعَهم   قِرْف الحَتيّ وعندي البُرُّ مكنوز
قرف الحتِيّ هو سَوِيق المُقْل. يقول: إنه نزل بقوم فكان قِراه عندهم سويق المقل، وهو الحَتِيّ، فلما نزلوا به قال هو: لا دَرّ دَرِّي... البيت. وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يُطّلَع عليه، بخلاف سائر الأموال. قال الطبريّ: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وسمي الذهب ذهباً لأنه يذهب، والفضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى: «ٱنْفَضُّوا إلَيْهَا ـ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وقد مضى هذا المعنى في «آل عمران». الثالثة ـ واختلفت الصحابة في المراد بهذه الآية فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب، وإليه ذهب الأَصَمّ لأن قوله: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ } مذكور بعد قوله: { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }. وقال أبو ذرّ وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. وهو الصحيح لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنِزون، بغير والذين. فلما قال: «والذِين» فقد استأنف معنًى آخر يبيِّن أنه عطف جملة على جملة. فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء. قال السُّدِّي: عنى أهل القبلة. فهذه ثلاثة أقوال. وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة. روى البخارِيّ عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة فإذا أنا بأبي ذَرٍّ فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب.

السابقالتالي
2 3 4 5