الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

قوله تعالىٰ: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ } الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظِّمه ويتقنه بحسن البيان عنه. ومنه ثوب محبرّ أي جمع الزينة. وقد قيل في واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء. والمفسرون على فتحها. وأهل اللغة على كسرها. قال يونس: لم أسمعه إلاَّ بكسر الحاء، والدليل على ذلك أنهم قالوا: مداد حِبر يريدون مداد عالم، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر. قال الفرّاء: الكسر والفتح لغتان. وقال ابن السِّكيت: الحِبر بالكسر المداد، والحبر بالفتح العالِم. والرّهبان جمع راهب مأخوذ من الرّهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالىٰ على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به. قوله تعالىٰ: { أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورُهْبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء ومنه قوله تعالىٰ:قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [الكهف: 96] أي كالنار. قال عبد الله بن المبارك:
وهل أفسد الدّينَ إلاَّ الملوك   وأحبارُ سوء ورُهبانها
روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البَخْتَرِيّ قال: سئل حذيفة عن قول الله عزّ وجلّ: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } هل عبدوهم؟ فقال لا، ولكن أحَلّوا لهم الحرام فاستحلّوه، وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه. وروى الترمذِيّ " عن عدِيّ بن حاتم قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: «ما هذا يا عدِيّ ٱطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة «براءة» «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُون اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» ثم قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه» " قال: هذا حديث غريب لا يُعرف إلاَّ من حديث عبد السَّلام بن حرب. وغُطيف بن أَعْيَن ليس بمعروف في الحديث. قوله تعالىٰ: { وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ } مضى الكلام في اشتقاقه في «آل عمران». والمسيح: العَرَق يسيل من الجبين. ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال:
أفرح فسوف تألف الأحزانا   إذا شهدت الحشر والميزانا
وسال من جبينك المسيح   كأنه جداول تسيح
ومضى في «النساء» معنى إضافته إلى مريم أمّه.