الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { فَسِيحُواْ } رجع من الخبر إلى الخطاب، أي قُلْ لهم سِيحُوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين أحداً من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسرٍ. يقال، ساح فلان في الأرض يسيح سِياحة وسُيُوحاً وسيحاناً ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طَرفَة بن العبد:
لو خفتُ هذا منك ما نِلْتَنِي   حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ
الثانية ـ وٱختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين بَرِىء الله منهم ورسولُه. فقال محمد ابن إسحاق وغيره: هما صِنفان من المشركين، أحدهما كانت مدّة عهده أقل من أربعة أشهر فأُمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت مدّة عهده بغير أجل محدود فقُصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حَرْب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يُقتل حيث ما أُدرك ويُؤسر إلا أن يتوب. وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وٱنقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر. فأمّا من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأربعة الأشهر الحُرُم. وذلك خمسون يوماً: عشرون من ذي الحجة والمحرّم. وقال الكَلْبِيّ: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومَن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يُتَم له عهده بقوله «فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ» وهذا ٱختيار الطبري وغيره. وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: أن هذه الآية نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عام الحُدَيْبِيَة، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فدخلت خُزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعَدَت بنو بكر على خُزاعة ونقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك دماً كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة فلما كانت الهُدْنة المنعقدة يوم الحديبية، أمِن الناس بعضهم بعضاً فٱغتنم بنو الدِّيل من بني بكر ـ وهم الذين كان الدم لهم ـ تلك الفرصةَ وغفلةَ خزاعة، وأرادوا إدراكَ ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الدِّيلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مَناة، حتى بيّتوا خزاعة وٱقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم فٱنهزمت خزاعة إلى الحَرَم على ما هو مشهور مسطور فكان ذلك نقضاً للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبُديل بن وَرْقاء الخزاعيّ وقوم من خزاعة، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشده عمرو بن سالم فقال:

السابقالتالي
2 3 4