الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } * { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

قوله تعالىٰ: { قَاتِلُوهُمْ } أمر. { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ } جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة. والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين. { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } دليل على أن غيظهم كان قد ٱشتدّ. وقال مجاهد: يعني خُزاعة حلفاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلّه عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأوّل. ويجوز النصب على إضمار أن وهو الصرف عند الكوفيين كما قال:
فإن يَهْلِك أبو قابوس يَهِلكْ   ربيعُ الناس والشهرُ الحرامُ
ونأخذَ بعده بِذِناب عيش   أَجَبّ الظَّهر ليس له سَنام
وإن شئت رفعت «ونأخذ» وإن شئت نصبته. والمراد بقوله: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } بنو خُزاعة على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشاً أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرنّ فَمَك فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال فقتلوا من الخزاعيّين أقواماً، فخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ في نفر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال " اسكبوا إليّ ماء " فجعل يغتسل وهو يقول: " لانُصِرتُ إن لم أَنْصر بني كعب " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهّز والخروج إلى مكة فكان الفتح. قوله تعالىٰ: { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأوّل. ولهذا لم يقل «ويتُبْ» بالجزم لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ. وهو موجب لهم العذاب والخزي، وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: «فَإنْ يَشَإ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ» تَم الكلام. ثم قال:وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [الشورى: 24]. والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعِكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق «وَيَتُوبَ» بالنصب. وكذا رُوي عن عيسى الثّقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط لأن المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله. وكذلك ما عطف عليه. ثم قال: { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ } أي إن تقاتلوهم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن لأن التوبة لا يكون سببها القتال إذْ قد تُوجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.