الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }

هاتان الآيتان في قول أُبَيّ أقرب القرآن بالسماء عهداً. وفي قول سعيد بن جبير: آخر ما نزل من القرآنوَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] على ما تقدّم. فيحتمل أن يكون قول أُبَيّ: أقرب القرآن بالسماء عهداً بعد قوله: «وَٱتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ». والله أعلم. والخطاب للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه، وشُرِّفوا به غابر الأيام. وقال الزجاج: هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى: لقد جاءكم رسول من البشر والأوّل أصوب. قال ٱبن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبيّ صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: يا معشر العرب، لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل. والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتمُّوا به. قوله تعالى: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } يقتضي مدحاً لنسب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها. وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسْقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ٱصطفى كنانة من ولد إسماعيل وٱصطفى قريشاً من كنانة وٱصطفى من قريش بني هاشم وٱصطفاني من بني هاشم " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني من نكاح ولست من سفاح " معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النّسل فيه إلا من نكاح، ولم يكن فيه زِنًى. وقرأ عبد الله بن قُسيط المكي من «أنْفَسِكم» بفتح الفاء من النفاسة ورويت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوباً فيه. وقيل: من أنفسكم أي أكثركم طاعة. قوله تعالى: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يَعِزُّ عليه مشقتكم. والعَنَت: المشقة من قولهم: أَكَمة عَنُوت إذا كانت شاقة مهلكة. وقال ابن الأنباريّ: أصل التعنت التشديد فإذا قالت العرب: فلان يتعنّت فلاناً ويُعنِته فمرادهم يشدّد عليه ويلزمه. بما يصعب عليه أداؤه. وقد تقدّم في «البقرة». «وما» في «ما عَنِتُّمْ» مصدرية، وهي ٱبتداء و «عَزِيزٌ» خبر مقدّم. ويجوز أن يكون «ما عنتم» فاعلاً بعزيز، و «عزيز» صفة للرسول، وهو أصوب. وكذا «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» وكذا «رَؤوفٌ رَحِيمٌ» رفع على الصفة. قال الفراء: ولو قرىء عزيزاً عليه ما عنتم حريصاً رؤوفاً رحيماً، نصباً على الحال جاز. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدّثنا أحمد بن محمد الأزديّ قال حدّثنا عبد الله بن محمد الخزاعيّ قال سمعت عمرو بن عليّ يقول: سمعت عبد الله بن داود الخُرَيْبِي يقول في قوله عز وجل: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } قال: أن تدخلوا النار، { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } قال: أن تدخلوا الجنة.

السابقالتالي
2 3